Friday, September 6, 2013

شاهد عيان - 49 -



د.محمد عصام منصور



دي أول مرة أقدر أقعد شوية على بعض من غير دوخة ولا وجع ولا هبوط ومش تحت تأثير منومات عشان أكتب بوست عالفيس أحكي فيه اللي شفته بعيني -مش ححكي أي حاجة سمعتها مهما كنت متأكد منها- يوم المدبحة.. الأربع 14/8/2013

من الأول نتفق.. اللي حيصدقني في اللي أنا بقول إني شفته بعيني يصدق.. واللي مش مصدقني يبقى أرجوه إنه يمسحني من عنده.. لأن ماينفعش يعرف واحد كذاب زيي.. وخصوصا لما يبقى الكذب في مسألة بيسيل فيها الدم نهار وليل زي دي.. ده يبقى حرام عليه إنه يعرفني أصلا..

أنا مش حستنتج أي حاجة. . أنا ححكي اللي حصل معايا بس.. وربنا يصبركم على كتر كلامي...

التلات الساعة اتنين بالليل:
كنا في المستشفى الميداني بنراجع حالة الطوارئ.. وازاي حنتصرف لو هجموا عالميدان وترتيب السراير والدكاترة والعربيات اللي حتنقل الناس وسراير الطوارئ لو عدد المصابين زاد عن العشرين سرير.. وازاي نخلي المستشفى لو الضرب وصل عندنا.. إلخ إلخ إلخ..

الساعة اتنين ونص: 
د.هشام منسق المستشفى بيقول "كله يروح ينام في مكانه ساعتين لحد الفجر.. ماحدش يصلي التهجد.. حنحتاج نبقى فايقين لو حصل هجوم بعد الفجر لا قدر الله"
بعدها بربع ساعة بالظبط.. كل الناس كانت واقفة بتصلي التهجد لحد الفجر ما أذن!!

نمنا بعد الفجر ساعة ونص لحد الساعة ستة الصبح.. لقينا كله بينادي "طوارئ.. طوارئ.. طوارئ"
كله صحى. . كله بيجري يقف في مكانه.. يجهز إسعافاته.. 

المصابين بالكوم.. الجثث بتوصل بالعشرات... راس متفجرة تماما.، رجل مقطوعة برصاصة ماعرفش نوعها إيه.. واحد نص وشه طاير... قليل أوي الرصاص الحي اللي احنا نعرفه!! الناس دي مضروبة بحاجة غريبة..

رصاصة إيه اللي تشيل نص الوش وتقطع الفخد وتخرم البطن والصدر خرم عشرة سنتي!!
وقفت أحاول أوقف نزيف.. أعلق محلول.. أركب كانيولا.. أعمل جبيرة.. كله شغال بدون إحساس.. جسمنا كلنا منمل!! ماحدش كان يتخيل الفجر ده.. حوالي 300 مصاب وجثة في ساعة ونص!!
الضرب بدأ يوصل المستشفى..

شاب في عمري.. أبيضاني و شعره جميل.. حسيت نفسي مكانه.. لقيته مرمي قدامي بينزف من صدره.. وبقه بيتحرك.. لسه عايش..ماعهوش حد..بصيت في إيده الشمال لقيت دبلة..يعني مراته ويمكن بناته مستنيينه في البيت.. حطيت له حاجة توقف النزيف من صدره.. ومسكت كانيولا وقعدت جنبه.. وزي المجنون قاعد أخرم في إيديه الاتنين وفي رجله وارمي الكانيولا واجرب غيرها واخرم هنا وهنا وهنا... مات في إيدي!!!
وقفت عاجز.. بكيت لأول مرة..

دقايق وبدأ الرصاص ينزل عالمستشفى... الغاز جوه المستشفى يعمي.. الستات بأطفالهم اللي كانوا هربانين جوه المستشفى مش عارفين يعملو إيه.. كل واحده بتحضن ابنها أو بنتها وبتعيط وبنتها بتتخنق وتدوخ وتموت في إيديها وماحدش في إيده حاجة!!

عشر دقايق.. وجه أمر الإخلاء من الدكتور هشام... 
خلعنا البلاطي ورمينا الآي دي وكسرنا موبايلاتنا وطالعين في اتجاه القاعة2 زي ما اتعلمنا في الإخلاء.. ومنها نطلع عالميدان..
تحت ضرب الرصاص.. سبنا المصابين.. أربع أدوار مليانين مصابين وجثث.. سبناهم وكتير مننا بيبكي.. ومشينا في الممر.. لقينا الضرب شغال عالقاعة اللي احنا رايحينها...

المهم.. كل شوية راحوا في اتجاه.. ناس رجعت المستشفى.. وناس زيي عرفوا يخرجو من ورا الجامع على الميدان..
خرجت لقيت الميدان فاضي خالص.. الضرب من الأربع اتجاهات بالرصاص الحي..
زيوو.. وتلاقي واحد جنبك وقع.. زيوو.. وتلاقي ناس بتصرخ.. زيوو.. وتلاقي الشجرة اللي وراك اتهزت..

حرايق في كل الاتجاهات..

ناس بتجري شايلة مصاب.. شايلة جثة.. أم شايلة ابنها على حجرها مقتول وقاعدة تعيط بشكل هستيري.. 

الأباتشي طايرة فوقينا وبتصطاد أي واحد ماسك كاميرا أو بيصور بموبايل.. أول مرة أشوف بعيني الطيارة الأباتشي بتضرب.. بتضرب دكاترة ومهندسين وستات وأطفال!!
(بعد كده عرفت ان الطيارة اصطادت فعلا كل المصورين وكمان كان فيه ناس مدسوسين بيشاورولها على بعض الشخصيات اللي كانت بتطلع عالمنصة.. منشد.. شاعر.. هتيف.. وتصطاده!!)

الشوارع كلها دم وجثث مرمية ماحدش شالها وحرايق وقنابل غاز ودخان..
المهم.. فضلت أمشي على غير هدى بالساعات.. الضرب من كل النواحي..

طيب انت لو عايز تفض الاعتصام.. إضرب من ناحية واحدة وخلي الناس تهرب من النواحي التاني.. اضرب حتى من ناحيتين.. من تلاتة!! لكن الضرب بالرصاص والجثث في الأربع نواحي!! يبقى انت جاي تقتل الناس دي كلها!! إنت عايز تقتل الخمسين ستين ألف اللي موجودين عشان ترتاح منهم خالص!! حرب إبادة بمعنى الكلمة!!

واحد ينضرب قدامي بالرصاص في رجله.. يقع.. يجري واحد يشيله.. ينضرب اللي شايله.. يقع ميت جنبه.. ثواني والمصاب ينضرب في دماغه وصدره ويموت مكانه جنب اللي كان شايله!! المنظر متعب نفسيا.. نعمل إيه طيب؟؟

في لحظة من اللحظات -أستغفر الله- جالي إحساس إن احنا ماشيين غلط.. يارب.. الناس دي قعدت تدعيك وهي صايمة وبتقيم الليل وخارجة أصلا عشانك.. عشان تقول كلمة حق في وجه سلطان جائر.. يارب.. نكون ماشيين غلط؟؟ يكون أصلا مفيش حاجة اسمها كده؟؟ ماهو ربنا ماستجابش أهو.. والناس والأطفال عمالة تموت بالآلاف ومفيش أمل!!

أستغفر الله.. الإحساس ده جالي ثواني.. وبعدها افتكرت الآية "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"!! ياااه..حتى الرسل يظنوا أنهم قد كذبوا؟؟..
وافتكرت قصة أصحاب الأخدود اللي ماتوا كلهم وأكيد كانوا بيدعو ربنا انه ينقذهم وينصرهم.. وبعد ما ماتوا ربنا نصر الدين بيهم.. وافتكرت وافتكرت وفتكرت... أستغفر الله..
المهم.. الناس عمالة تتقتل قدامي.. والرصاص.. زيوو.. زيوو.. زيوو.. والجثث بتتنطور قدامك.. ستات وبنات وأطفال وشباب...

الساعة خمسة المغرب سمعت صوت ميكروفون جاي من شارع الطيران من ناحية كنتاكي... رجلي خدتني على هناك..

"جهاز الشرطة المصري يعمل من أجلكم.. يجب فض هذا الاعتصام لأسباب قانونية.. لا نريد قطرة دم واحدة.. الرجاء من جميع المعتصمين الخروج بأمان من شارع النصر في اتجاه المنصة.. نكرر.. لا نريد قطرة دم واحدة.. كل وسائل الإعلام تقوم بتصوير مايحدث!!"

ياولاد الكلب!! يعني بعد ماقتلتوا آلاف مؤلفة... وقتلتوا كل اللي كان بيصور اللي بيحصل.. دلوقت جايبين التليفزيون وحتصورو من دلوقت فض الاعتصام بشياكة!! وطبعا الناس في البيوت مش حتعرف ان القتل شغال بقاله اتناشر ساعة!!

وبعدين افتكرت حاجة.. ده أنا لسه جاي من عند المنصة.. والقتل شغال هناك بشكل رهيب!!.. خروج آمن ازاي؟؟

رجلي خدتني لحد المنصة وانا بفكر.. أخرج من هنا؟؟ أروح بيتي؟؟ كفاية التعب اللي تعبته؟؟.. طب إفرض اتقتلت وأنا خارج دلوقت.. أقابل ربنا هربان؟؟ بقى بعد البهدلة دي كلها أقابل ربنا هربان؟؟

فعلا.. لقيت الضرب وقف ناحية المنصة.. ياولاد الكلب.. بعد ماقتلتوا آلاف وأصبتو الكل بتفتحو سكة للي عايز يخرج؟؟

وانا ماشي بفكر في كده.. راجل جنبي ملتحي كبير في السن بيتكلم في الموبايل.. الأباتشي فوقينا.. والسلاح متوجه ناحيته.. بوووم.. دماغه اتفجرت.. جسمه وقع عالأرض من غير راس..
يا الله... طيب ما انا ممكن يحصل لي كده دلوقت.. يبقى ساعتها أموت هربان؟؟ 
لأ.. مش حمشي..

لقيت خيمة معمولة مستشفى ميداني ناحية المنصة قريب من اتجاه الخروج الآمن.. قلت أقعد أعمل حاجة مفيدة..

لقيت عندهم مصابين عطشانين وبيقولولهم "والله مفيش مياه!!"..
كان كل اللي في جيبي ساعتها 70 جنيه.. قلت أخلي عشرين عشان لو خرجت من هنا أركب بيهم ديزل.. ورحت لآخر كشك شغال وجبت منه بالباقي مياه ورحت بيها عالمستشفى.. (الجميل.. سبحان الله.. إني لما انضربت شربوني من المياه دي :) )

قعدت أساعد معاهم.. ماكانش فيهم دكتور.. كانوا كلهم ممرضين ربنا يكرمهم بيحاولو يسعفو المصابين بأي طريقة.. قعدت معاهم أساعد..

وانا قاعد بتفرج عالناس اللي بتخرج خروج آمن.. 

أربع شباب بيض وحلوين في سن 18-19 خارجين مع بعض متبهدلين.. واحد منهم ماسك الموبايل "أيوة يا ماما.. والله احنا جايين.. خلاص يا ماما والله.. والله فتحوا السكة خلاص.. ياماما احنا محبوسين من الصبح.. خلاص والله...."
واحدة ماسكة بناتها الاتنين وماشية بسرعة وبناتها بيجرو حواليها..
راجل شايل شوال شكله فيه بضاعة.. ممكن يكون بياع متجول وماصدق إنه يقدر يخرج..
المهم.. اللي خرجو كلهم مايزيدوش عن خمسين ستين واحد..

نص ساعة.. وفجأة الشرطة بدأت الضرب تاني بس بغباء.. جثث حوالينا بالهبل.. كل اللي واقفين في الشارع ناحيتنا بقو فجأة جثث ومصابين.. ولقينا اللي خرجو خروج آمن راجع منهم ناس متشالين مضروبين بالرصاص.. وبيقولو إن الجثث برة مالية السكة.. هم يادوب مشوا 500 متر وانضربو بالنار!!

بدأنا نحاول نسعف أي حاجة.. أوقف النزيف.. أعلق محلول.. أركب كانيولا.. اسقي مياه..

وأنا واقف موطي بركب كانيولا لواحد مضروب في فخده.. 
زيوو..تك.. رصاصة في العربية اللي أنا ساند عليها!!
لفيت بجسمي في ثانية.. 
زيوو.. تك.. حاجة سخنة في بطني أو في صدري.. مش فاهم!!.. فيه حاجة سخنة!! حطيت إيدي على الحتة السخنة.. وبتحرك.. 
زيوو.. تك.. وقعت على وشي.. ورجلي انتنت تحتي نصين.. مفيش وجع.. أنا بس مستغرب.. إيه اللي بيحصل ده..
زيوو.. تك.. رصاصة في العربية تاني اللي وقعت جنبها..
بنت صغيرة شايفها بتشاور عليا وبتصرخ.. "قتلوا الدكتور... قتلوا الدكتور.."

أنا مش فاهم حاجة.. معقولة؟؟ أنا أموت شهيد؟؟ هي الشهادة بترمرم؟؟ هو اللي زيي ينفع يموت شهيد؟؟ طب فين الرصاصة اللي حتيجي في دماغي؟؟ ياللا بقى عشان نخلص..

طيب.. صفاء وملك وجنة... آه.. ربنا حيتولاهم.. هو اللي بيرزقني وبيرزقهم.. وحشوفهم في الجنة ان شاء الله...
المهم.. أفكار كتير جات في دماغي في ثواني.. شالوني عشان يحطوني في العربية اللي كنت ساند عليها.. قالولهم فيه مصاب في العربية.. حطوه عالعربية من فوق.. راسي على الشنطة ورجلي على السقف.. مقلوب ودايخ ومش شايف.. الصندل وقع.. النضارة وقعت.. سمعت صوت حد داس عليها.. العربية حتتحرك.. ضربوا عالعربية نار.. نزلوني هنا..

دخلوني جوه خيمة.. سامع طول الوقت ضرب نار.. وأصوات بتقول "ضربو الراجل ده" "لاحول ولاقوة إلا بالله" "حد يجيب البنت اللي واقعة هناك دي"....أنا شبه غايب عن الوعي..

واحد حطلي قطن على جرح صدري.. والتاني ركب لي محلول ملح.. وراح يوقف نزيف رجلي.. وهو موطي عليا.. خد رصاصة في ضهره.. وقع جنبي.. ماعرفش عاش ولا مات..

لقينا شباب جاي يجري بيقول الشرطة داخلة هنا خلاص وبيقتلو كل اللي يقابلوه.. شالوني وشالوا اللي عرفوا يشيلوه وحطونا في مدخل عمارة جنبنا..

الباقي قصة طويلة ممكن لو مازهقتوش أبقى أحكيها بعدين..

عايز بس أأكد إن كل حاجة قلتها شفتها بعيني... ماحدش قتل الناس غير الشرطة باللبس الميري وطيارات الأباتشي بتاعة الجيش.. ماكانش فيه أهالي ولا مواطنين شرفاء خالص!!

كان كل هدفهم طول اليوم يوصلو للمستشفى عشان يحرقوها عشان ماحدش يقدر يثبت ازاي الناس دي اتقتلت برصاص ميري ولا ﻷ.. وعددهم كام.. ماتقدرش تثبت حاجة..
ولما وصلوا المستشفى.. خرجو الدكاترة بالتهديد.. ولما دكاترة قالولهم طيب والمصابين؟؟ قالولهم اللي عايز يستنى حيبقى زيهم..

حرقوا المستشفى والمسجد والقاعة وخمس أدوار فيهم بشر أحياء مصابين وفيهم جثث!!!
أقذر جريمة في تاريخ البشر.. حرقوهم أحياء!!
أنا ماكنتش في المستشفى وقتها.. لكن اللي كلموني كلهم حكولي عاللي حصل.. وكلهم دكاترة من أنضف خلق الله مايعرفوش يعني إيه الكذب.. ومنهم كتير مش تبع أي تيار سياسي ولا جماعة ولاغيره.. كانوا بس متطوعين لعلاج المصابين في المستشفى..

آخر حاجة حقولها.. ماحدش يزعل مني لما يتصل وما اردش عليه.. أنا باخد منومات ومخدرات للألم غالبية اليوم.. فاعذروني.. وأنا بخير دلوقت الحمد لله..

واللي عايز يرد عالبوست ده.. يقرا أوله الأول..

اللهم انصر الحق وأهله.. واهلك الظلم وأهله.. أشوفكم على خير جميعا..

No comments:

Post a Comment