Tuesday, August 20, 2013

شاهد عيان - 16 -


 د. أمامة الحسيني الشامي




الأربعـاء 14 أغسطس 2013
بداية الأحداث الساعة السادسة والنصف صبـاحا
المكان :: ميدان رابعة العدوية

كانت الساعة السادسة والنصف صباحا حين دخلت احدى أخواتي الخيمة التي كنت أنـام فيها وهي تنهضني مسرعة "أمامة قوووومي الدبابات داخلة الميدان" !
وأنا بين النوم واليقظة ومرهقة حد الموت ، لا أستوعب شيئا مما تقـول فأرد عليها"روحي انتِ يا مروة وأنا جاية وراكي"
صرخت في أنهم يدخلون الآن من عند مدخل مول طيبة ، وخيمتنا لا تبعد عن هذا المدخل كثيرا !
قمت مسرعة لم آخذ معي إلا حقيبة يدي وخرجنـا لأجد الرجال والشباب يجرون ناحيةالمداخل لتأمينها والنساء تجري ناحية المنصة !
اتجهنـا للمنصة وأنا لا أعلم شيئا عن أي من أخواتي اللاتي كُنَّ معي في الخيمة ساعة الفجر !

كنت أثناء الاعتصـام ضمن فريق الطوارئ للمستشفى الميداني ، نفرش الحصير أمام المستشفى ونسعف المصابين بحالات غير خطرة لأن المستشفى لا تتسع لجميع المصابين .،
المستشفى لا تبعد غير بضع أمتار عن المنصة ، توجهت إلى فريق الطوارئ وبدأنا نسعف المصابين ، من أول لحظة كانت الاصابات تأتي بأعداد كبيرة جدا ، حالات اختناق بالغاز واصابات بالخرطوش ، وما هي إلا دقائق حتى بدأت الطيارات تطلق قنابل الغاز والقنابل الحارقة داخل الميدان ، كانت قنابل الغاز تنهال علينا أمام المستشفى وكأنهم يتعمدون القاءها بين المصابين على الحصير ، تُقذف القنبلة فنختنق جميعا بالغاز ثم يستعيد الفريق قوته لنجد مئات المصابين أمامنا ينتظرون اسعافهم ، وفي هذه اللحظة كات القنابل الحارقة تُقذف على الخيام لتحرقها وتحيلها رمادا بما فيها ومن فيها !
تحول الهجوم إلى القاء القنابل داخل المستشفى الميداني التي تعج بالمصابين وكلهم حالات خطرة ،


الطائرات تحلق فوقنا على ارتفاع قليل وتطلق علينا قنابل الغاز ثم ترتفع ، قناصة بالطائرات وعلى أسطح العمارات والمنشآت التابعة للجيش يقنصون المعتصمين وخاصة من على المنصة !

حملنـا أدوات الاسعاف بجيوبنـا وانتقلنا من أمام المستشفى إلى الجانب الآخر من الميدان لنجد الخرطوش يصوب علينا من كل اتجاه ، وقنابل الغاز لا ترحم صغيرا أو كبيرا، اختنقنا بالغاز كثيرا ورأينا الموت بأعيننا ، لم يكن غازا عاديا كالذي كان يستخدم في ثورة 25 يناير ، لكنه كان يهيج الأعصاب ويلهب العين ويخنق الأنفاس فتجد الكبار قبل الصغار يضربون أنفسهم في الأرض من الألم وضيق التنفس ، ظل الوضع هكذا.. غاز وخرطوش بكميات كبيرة جدا تطلق علينا من كل مكان حتى صرخ فينا الأطباء"البنات تدخل المستشفى الميداني اللي قدام المسجد" ، جرينـا والغاز يخنق أنفاسنـا ، كنا نجري منخفضي الرؤوس لتجنب الاصابة في الرأس أو العين ،

تحول مسجد رابعة العدوية وقاعة الاجتماعيات 2 إلى مستشفيات ميدانية ، وبدأ استقبال المصابين والشهداء بها ، لم يكن المكان يتسع للعدد الضخم من المصابين والشهداء ،فكانت الاصابات التي يتم اسعافها ولو مؤقتا تُنقل إلى خيام المعتصمين أمام المسجد ومركز رابعة العدوية الطبي ، ورغم ذلك اكتظت القاعة والمسجد بجثث الشهداء وأجساد المصابين الملقاة على الأرض ينزفون بغزارة من كل مكان بأجسادهم !

نٌقلت جثث الشهداء خارج المستشفى إلى قاعة أخرى وإلى داخل المسجد وفي الخيـام ليتسع المكان بالمستشفى للمصابين ، وقبل أذان الظهر بدأ تحويل المصابين الجدد إلى مركز رابعة العدوية الطبي لأن المستشفيات الميدانية لم يعد بها مكان لاستقبال أي حالات جديدة !

رأيتُ اصابات غريبة ، غير الخرطوش العادي كان يطلق علينا خرطوش ينفجر داخل الجسد ،أخرجت من أجساد المصابين طلقات تشبه التروس بأطراف مدببة تقطع في الجسد ، رصاص حي يخترق الأجساد ، طلقات خرطوش مصوبة في العين والرأس ، قنابل غاز تنفجر على رؤوس الناس فيموتوا فورا ،

رأيت رؤوسا تنفصل عن الأجساد ، أيدي مقطوعة ، وأذرع مخلوعة ، كنا نسعف من نستطيع اسعافه ونحول الحالات الخطرة إلى مركز رابعة الطبي ، خيام المعتصمين أمام المسجد لم يكن بها موضع قدم بين المصابين ، وكلهم ينزفون ، كان هناك نقص شديد بأطباء الجراحة وبالطبع لم يكن أحد يستطيع دخول الميدان ،


قابلت ابن خالي "زيد" أمام المستشفى وأخبرني أن والدي ووالدتي موجودان بالميدان ، فخرجت قبل الظهر أبحث عنهم ، كان الميدان قد انحصر في المنطقة أمام المنصة ، واصبحت حدود الميدان من يمين المنصة المتاريس التي صنعها الاخوة بعد شارع ادارة المرور بخطوات ، وأمام المنصة في طريق الحرس الجمهوري بشارع الطيران كانت المتاريس على بعد قليل من المنصة ، وكل شئ أصبح رمـادًا !!

بحثت عن أهلي وأخواتي بين الناس الجالسين أمام المنصة ولم يكن عددهم كبير لدخول معظم النساء والأطفال إلى داخل المسجد ، لم أفلح في العثور على أحد ممن أعرف ، وكانت الجرافات قد دخلت إلى الخيام بشارع النصر من الجانب الآخر من الطريق للمستشفى الميداني والشباب يحاولون ارجاعها بالطوب وهو كل ما كانوا يملكون من أسلحة حتى نجحوا في ارجاعها ، وقبل أن أعود إلى المستشفى ألقيت بجوار قدمي قنبلة غاز لم يستطع الشباب إبطال مفعولها فاختنقتُ ومن حولي بالغـاز ، ولم أشعر بشئ إلا وأحد الأطباء يحاول افاقتي أمام باب المسجد ، استعدت قواي ودخلت إلى المستشفى لأجد أعداد المصابين في ازدياد والحالات تزداد خطورة والوضع يسوء أكثر وأكثر ، كان الناس يأتون ليأخذوني من أمام المستشفى إلى خيام المصابين لأجد أعدادا هائلة من البشر ينامون فوق بعضهم البعض من ضيق المكان وقلة الامكانيات بالمستشفى ، بعضهم حالات أستطيع اسعافها دون الحاجة لأطباء متخصصين ، ومعظمهم حالات خطرة لا يتوقف نزيفها فنحاول اخلاء مكان لها بالمستشفى !

خرجت مرة أخرى إلى الميدان بعد الظهر بساعة لألتقي قدرا بـ أخواتي اللاتي قضيت معهن أيام الاعتصام كلها منذ يوم 2-7 ، سألتهم إن كانوا رأوا أهلي فأجابوا بالنفي!


اتصل بي أخي ليخبرني أن الأمن اعتقلوا ابن خالي "زيد" ، وبتحليق الطائرات وصوت طلقات الرصاص والقنابل لم أستطع سماع كل ما قاله جيدا ، ذهبت برفقةأخواتي باتجاه المتاريس عند شارع ادارة المرور ، وبدأنا بجمع الطوب لننـاوله للإخـوة الواقفين خلف المتاريس يمنعون الدبابات من الدخول ، رأينا دبابات جيش عادية ودبابات أخرى لونها أخضر قاتم وحولها يقف ملثمين بلباس أسود يحملون الأسلحة ويطلقون النيران على المعتصمين ، استودعت الله أخواتي وتركتهم وأنا في طريقي للمستشفى قابلت زوج أختي فأوصلني إلى أمي وأبي وأخي الصغير "محمد" اطمئننتُ عليهم وخرجت مرة أخرى للمستشفى ، استمر المصابين والشهداء في التوافد علينا ، كانت ابتسامة الشهداء تنسينا كل ما نحن فيه ، مات بين يدي الكثير منهم قبل أن نستطيع اسعافهم ، استشهدوا والابتسامة تعلو وجوههم والنور يملأهم ليتركونا نحن في دنيا لا ترحم أحدا !

أُذن للعصر فخرجت للميدان أتفقد الوضع ، كان الاخوة يتبادلون الأماكن ليؤدواالصلاة ، والأخوات صامدات أمام المنصة لا يتحركن رغم وابل الرصاص والقنابل المنصب من الطائرات فوق رؤوسهن ، تيممت وجلست على رصيف أمام المنصة لأصلي الظهر والعصر ،وفي آخر ركعة من صلاة العصر في التحيات ألقيت بجواري قنبلة غاز فأغمضت عيني وسلمت من الصلاة لأجدني داخل سحابة كثيفة من الغاز ورغم القناع على وجهي إلا أن الغاز كان كثيفا كفاية لأختنق بشدة ، ساعدني أحد الأخوة وابتعدنا عن مكان الغاز لأجد الجرافات تحاول هدم المتاريس من ناحية شارع ادارة المرور  تصدى لها الشباب وأعادوها بضع خطوات للوراء ،


بحثت طويلا عن الأخوات اللاتي كن معي فلم أجد أحدا ،كانت اتصالات الهاتف منقطعة ولا أستطيع الوصول لأيا كان ، ذهبت إلى المتاريس في شارع الطيران أمام المنصة وجلست مع المعتصمين هناك ، كنا نجلس خلف أسوار الطوب التي بناها الشباب وخلفها الدبابات ، الطائرة تحلق فوقنا لتطلق قنبلة الغاز بيننا ثم تستغل القوات الخاصة سحابة الغاز الخانقة لتمطرنا بوابل من الخرطوش والرصاص الحي، ظلوا يتقدمون ونحن خلف جدران الطوب والشباب يتساقطون الواحد تلو الآخر ، إلى أن حبسونا جميعا داخل أسوار مسجد رابعة، وتقدمت الدبابات والجرافات تهدم ما بقي من الخيام وتحرق المنصة الرئيسية ، ومن تبقى في الميدان محتجز داخل أسوار المسجد ، دخلت إلى المستشفى لأجدها تحترق ، بحثت عن أهلي حيث كانوا يجلسون فلم أجدهم ووجدت المكان يشتعل بالنيران بدءا من المكيف ،كان لا يزال بالمكان مصابين لم يتم نقلهم بعد ، خرجت من باب المستشفى (قاعةالاجتماعيات 2) لأجد رفيقاتي خارجات من باب المسجد ،

كانت الساعة حوالي السادسة والربع حين أخرجونـا وكل من كانوا داخل المسجد من باب الخروج الآمن كما أطلقوا عليه وهو باب المسجد الخلفي عند لجنة زكاة رابعة العدوية ، كان هناك صف من القوات الخاصة يقف بطول الممر الذي كنا نسير فيه يستحثونا على السير ،

أما في مركز رابعة كان الأطباء يجبرون على ترك المصابين والخروج ، حتى ان كانوا في وسط عملية جراحية !!

سرنا في اتجاه شارع مكرم عبيد ، سرنا ونحن لا نعلم ماذا سيفعلون بالمصابين وجثث الشهداء بالمستشفى والخيام ، مسافة طويلة قطعناها حتى وصلنا إلى مسجد الإيمان آخر شارع مكرم عبيد ، وجاءتنا الأنباء هناك أنهم أحرقوا المستشفى والمسجد بما فيهم من جثث شهداء ومصابين لم يستطيعوا الخروج !

صلينا المغرب والعشاء ، وبدأت جثث الشهداء التي استطاع الناس اخراجها تتوافد على المسجد !

وصلت شقة أخي بالقاهرة في العاشرة والنصف تقريبا ووجع القلب قد بلغ منتهاه .. وجعٌ لا يوصف بكلمات ، أما كفاهم جرمهم مع الأحياء حتى يحرقوا الشهداء والمصابين !!

يوم كيوم الحشر .. لم أتخيل منذ بدأ أني سأرى نهايته ، لكن الله سبحانه وتعالى قدرأن أعيش بعده لحكمة يعلمها هو !

شهادتي على مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية
وحسبي الله ونعم الوكيل

ـــــــــــــــــــــــ
أمامة الحسيني الشامي
بكالوريوس صيدلة
السبت 17-8-2013
03:40 م

No comments:

Post a Comment